يعيش أطفال العراق ممن يعانون من مرض التوحد، وضعا "مزدوجا" نتيجة الإصابة بهذا المرض وقلة الخدمات الصحية التي تناسب وضعهم، وفيما تعاني أسرهم أيضا من "صعوبات" على مستوى التعامل مع أولادهم وارتفاع تكاليف مراكز العلاج شهرياً، تكشف تقارير ارتفاع أعداد المصابين بهذا المرض على مستوى العراق وقلة الكادر الصحي المتخصص بالتعامل مع هذه الحالات.
مفهوم مرض التوحد
يعد التوحد أحد اضطرابات النمو المعقدة التي تصيب الأطفال وتعيق تواصلهم الاجتماعي اللفظي وغير اللفظي، فضلاً عن إعاقة النشاط التخيلي والاجتماعي التبادلي لديهم، إذ يظهر هذا الاضطراب خلال الثلاث سنوات الأولى من عمر الطفل وتكون أعراضه واضحة في عمر الثلاثين شهراً، إذ يبدأ في تطوير سلوكيات شاذة وأنماط متكررة والانطواء على الذات.
كما انه بحسب تعريف المعهد الوطني للصحة العقليَّة في الولايات المتحدة فانه اضطرابٌ دماغيٌ يؤثر في قدرة الشخص على الاتصال بالآخرين، وإقامة علاقات معهم، والاستجابة للبيئة على نحوٍ ملائم.
أسباب وأرقام عالمية
تعرّف منظمة الصحة العالمية مرض التوحد، الذي صُنّف كمرض منفصل عن الفصام في 1980، على أنه "مجموعة من الاعتلالات المتنوعة التي تتصف ببعض الصعوبات في التفاعل الاجتماعي والتواصل، وصعوبة الانتقال من نشاط إلى آخر والاستغراق في التفاصيل وردود الفعل غير الاعتيادية".
بحسب المنظمة ذاتها فإن التوحد يصيب واحداً من بين (100) طفل حول العالم، ويكون الذكور أكثر عرضة للإصابة بهذا المرض بأربع مرات مقارنة بالإناث، وأسباب هذا المرض لا تزال غير معروفة، إذ تشير التقارير إلى وجود عوامل محتملة تجعل الطفل أكثر عرضة للإصابة بالتوحد منها عوامل (بيئية وجينية وراثية).
لكن مختصون يرجعون السبب الرئيس للإصابة بمرض التوحد إلى "أسباب جينية (وراثية)، إذ يؤدي هذا الخلل الوظيفي إلى اختلاف تشابك الخلايا العصبية في الدماغ وبالتالي رسم خرائط جديدة وطريقة تفكير مختلفة لدى الشخص المصاب بالتوحد عن أقرانه غير المصابين.
وتوصلت دراسات إلى "وجود ما يزيد على 100 جين يسبب الإصابة بالتوحد، لكن حتى الآن لا توجد رؤية واضحة عن تلك المسببات نتيجة لكثرتها واختلاف تأثيرها".
أعداد ومراكز المصابين بالتوحد
ولا يتوفر لدى وزارة الصحة العراقية، احصاءات ونسب محددة أو تقريبية عن أعداد أطفال التوحد في البلاد، حتى الآن، بحسب توضيح المكتب الاعلامي للوزارة، الذي وعد وكالة شفق نيوز بتزويدها بهذه النسب حال توافرها.
ويرجح متخصصون عدم وجود إحصائية دقيقة لأعداد الأطفال المصابين بمرض التوحد، إلى عدم وجود بيانات متكاملة وعدم تسجيل جميع الحالات في مراكز التوحد الحكومية والأهلية على حد سواء، لكن انتشار معاهد ومراكز أهلية متخصصة في علاج هذا الاضطراب في مختلف أنحاء البلد، يدلل على وجود أعداد كبيرة من المصابين، ويؤشر في المقابل تقصيرا حكوميا في رعاية هذه الشريحة.
إلا أنه بحسب تقرير طبي نشره موقع (ذي ناشونال) في وقت سابق نقل عن مدير مركز التوحد التابع لوزارة الصحة العراقية الدكتور حسين الكعبي قوله إن "أعداد الأطفال المصابين في تزايد ويتوقع وجود أكثر من 200 ألف طفل يعاني من اضطراب طيف التوحد في البلاد وسط تراجع الخدمات لهذه الفئة من المرضى، ما حدا بذوي المرضى إلى التوجه إلى مراكز العلاج والتأهيل الأهلية، على الرغم من ارتفاع التكاليف المالية مقارنة بالنتائج المتواضعة التي يمكن أن يقدمها عدد قليل من تلك المراكز.
كما أن مدير مركز التوحد التابع لوزارة الصحة العراقية أكد في تصريح مماثل أيضا أن "العراق يجاري العديد من دول العالم بإنشاء مراكز متخصصة بعلاج مرض فرط الحركة والتوحد في مركز علاج التوحد والأمراض النفسية للأطفال والمراهقين في مستشفى حماية الاطفال، فضلا عن المراكز التابعة للعتبة الحسينية في كل من كربلاء والمحافظات الجنوبية والفرات الاوسط.
ويوجد في العاصمة بغداد، ذات أكبر كثافة سكانية في البلاد، ”مركز بغداد الحكومي للتوحد” في جانب الكرخ، لعلاج مرضى التوحد، في حين تشير إحصاءات غير رسمية إلى وجود 85 مركزا أهليا منحت التراخيص لتقديم العلاج في مختلف أنحاء البلاد، كما أن معاهد خاصة أخرى افتتحت أيضاً، لكنها لا تخضع لرقابة ومتابعة من الجهات الحكومية، مع تكاليف علاج تتراوح بين 250 و500 ألف دينار شهريا.
ويكشف أسامة الساعدي وهو مسؤول عن مشاريع طبية خيرية تديرها العتبة الحسينية إن "العتبة تشرف على 11 معهدا وأكاديمية لرعاية أطفال التوحد في بغداد والمحافظات"، مبينا أن هذه المراكز "تقدم خدماتها لأكثر من 1200 طفل".
سمات وعلامات
يرى أطباء الأمراض العصبية أن "هناك عدداً من العلامات والسمات التي تظهر في بداية مراحل التوحد والتي من خلالها يمكن تشخيص الإصابة بالمرض، وهي تتمثل بضعف ثلاثة محاور، أولها ضعف التطور في التواصل عند الطفل ابتداء من ضعف التواصل البصري وقدرته في فهم مشاعر الآخرين ورغبته في اللعب معهم، ثم صعوبة في الإيماءات وغيرها وصولاً إلى عدم تطور النطق.
أمّا المحور الثاني؛ فهو ضعف المستقبلات الحسية، حيث إن الدماغ لا يستطيع أن يميز المستقبلات الحسية بصورة معتدلة، وإنما يبالغ في هذه الايعازات أو يقلل، إذ كثيراً ما نلاحظ طفل التوحد ينزعج من صوت معين بطريقة مبالغ بها أو تمسكه بلعبة او لبس معين بصورة مبالغ بها أيضاً، أما الضعف الثالث فهو التحديد والتكرار وهو ناتج عن التأخر في النطق الذي يسبب مشكلات حسية مثل تكرار بعض الحركات أو بعض الكلمات او التعلق بطعام معين ورغبته بتكراره بصورة مستمرة.
أمهات تشكو
"لم أعد احتمل".. هكذا تشكو ام (لانا) معاناتها اليومية مع طفلتها البالغة من العمر تسع أعوام، والتي تعاني من فرط شديد في الحركة منذ عامها الأول.
وتوضح الأم التي كانت تعمل موظفة حكومية انها اضطرت لترك عملها والمكوث في المنزل بسبب أبنتها ، جراء حركتها الشديدة وتخوف العائلة من ترك الطفلة في عهدة قريب لهم.
ووفق الأم، فإن "الطفلة تعاني ايضا من قلة الانتباه بشكل مفرط، وصعوبة النوم وعدم الخوف من النار"، فيما تشكو من "صعوبات متعددة تبدأ من مرحلة التشخيص مروراً بمراحل العلاج والتأهيل شبه المستحيلة نتيجة لغياب الخدمات الصحية والتأهيلية المنتظر تلقيها من الجهات الحكومية، وليس انتهاء بصعوبة دمجها في المجتمع".
فخر من نوع جديد
تظهر شيماء الهاشمي فخراً بنفسها وأولادها المصابين بالتوحد رغم حملات "التنمر" التي تطالها على مواقع التواصل الاجتماعي ومنها تعليق: "لماذا أنتِ فخورة بهم؟ هم مجانين. وبالرغم من حالتهم، تتاجرين بأطفالك؟".
شيماء وهي من بغداد، أم لثلاثة أطفال، اثنان منهما مكفوفين ومصابين بطيف التوحد، آية، 17 عامًا، ومحمد، 11 عامًا، وهما مصابان بالتوحد ولا يبصران بسبب عدم اكتمال نمو قشرة الدماغ التي أثرت على العصب البصري لديهما.
واكتسبت الأم الكثير من المعلومات حول التوحد عبر دورات تثقيفية وحديثها مع أطباء في دول أخرى. ومن ثم عملت على مشاركة هذه المعلومات والتجارب الناجحة عبر صفحتها في إنستغرام، ليتجاوز عدد متابعيها 112 ألف متابع ومتابعة.
ولا يوجد في بغداد، التي تضم أكبر كثافة سكانية في العراق ويسكنها 9 ملايين شخص، إلا مركز حكومي واحد لعلاج مرضى التوحد، ما يضطر العائلات إلى التوّجه إلى مراكز خاصة ذات تكاليف علاج باهظة من أجل الحصول على رعاية وتدريب.
تقرير استقصائي
بحسب تقرير بإشراف شبكة نيريج للتحقيقات الاستقصائية نشر تموز 2023، بعنوان "مرضى التوحد معاناة بلا نهاية… ضحايا الجهل وسوء التشخيص والإهمال الحكومي" فإن وزارة العمل والشؤون الاجتماعية لاحظت زيادة في أعداد مرضى التوحد عام 2021، مرجعة ذلك الى زواج الأقارب وأساليب التنشئة الاجتماعية الخاطئة التي تتبعها بعض الأسر، وسوء تشخيص المرض، وما يزيد من المشكلة هو قلة المراكز المخصصة لعلاج الأطفال المتوحّدين وتأهيلهم.
وبحسب التقرير؛ فإن أعداد المصابين بالتوحد يقرب من 200 ألف طفل بالاستناد الى توقعات وزارة التخطيط لسنة في 2022، والتي أكدت أن نسبة السكان الذين تقل أعمارهم عن 15 عاماً بلغت 40.5 في المئة من مجموع السكان، وهذا الرقم التخميني ذكره ممثل المرجعية الدينية في النجف الشيخ عبد المهدي الكربلائي، خلال افتتاحه مركز التوحد المنجز من قبل العتبة الحسينية قبل عام.
وبحسب موقع “وايس فوتر”، يحتل العراق المرتبة الـ 193 عالمياً في الإصابة بالتوحد لدى الأطفال بمعدل 328.27 طفل مصاب لكل 100 ألف طفل، ويرصد الموقع أكثر من 125 ألف مصاب بالتوحد من مختلف الأعمار.
أما وزارة التخطيط، فقد رصدت في إحصاءاتها أكثر من 350 ألف معوق بالفهم والإدراك، لكن لا شيء في هذه الإحصاءات يشير الى التوحد بعينه. وفي تقريره عن سياسة الدولة في التعامل مع اضطراب التوحد، أشار ديوان الرقابة المالية في تقريره لسنة 2015، وهو آخر تقرير صدر عنه، إلى عدم وجود قاعدة بيانات موحدة تتضمن دمج أعداد المرضى المشخصين بالتوحد من قبل وزارة الصحة والمسجلين ضمن معاهد وزارة العمل والشؤون الاجتماعية والمعاهد الأهلية.
وينبه تقرير لديوان الرقابة المالية، الى قلة الكوادر التعليمية المتخصصة بتعليم الأطفال المتوحدين ورعايتهم وضعف تدريبهم، إضافة الى قلة أعداد الأطباء النفسيين المنتسبين الى وزارة الصحة، إذ يحتاج العراق الى 12 ضعف عدد الأطباء النفسيين الحاليين.
ووفق تقارير غير رسمية، هناك طبيب نفسي متخصص واحد فقط لكل مليون فرد عراقي، بمعنى أن البلاد ليس فيها أكثر من 50 طبيباً نفسياً متخصصاً.
أمثلة جنوبية وكوردستانية
وكانت منظمة "التواصل والإخاء" الإنسانية في ذي قار كشفت، في الأول من نيسان 2024، عما وصفته بالرقم "الخطير" لعدد الأطفال المصابين بمرض التوحد في المحافظة، مشددة على ضرورة التحرك للحد من هذا الانتشار، وذلك بالتزامن مع اليوم العالمي لمرض التوحد.
وقال مدير المنظمة، علي الناشي إن "عدد المصابين بمرض التوحد والمسجلين رسمياً لدى دائرة صحة ذي قار بلغ 460 حالة إصابة بين الأطفال، أما العدد الكلي في المراكز الأهلية غير المسجلة والمناطق النائية فقد يتجاوز الثلاثة آلاف حالة"، مبينا أن "الأسباب المباشرة هي زواج القاصرات، وأخرى كيميائية تتمثل بتفشي الأوبئة وعدم تناول المرأة الحامل اللقاحات المخصصة لها أو للطفل أثناء فترة الحمل والولادة، أما الأسباب غير المباشرة فهي استخدام التواصل الاجتماعي، وترك الوالدين أطفالهما في أماكن معزولة عن أقرانهم، أو حرمانهم من التواصل مع محيطهم".
في حين يختلف الوضع في محافظات إقليم كردستان نسبياً، فيما يخص مرض التوحد وطريقة التعامل معه، فإن الإحصاءات تشير الى وجود 3600 طفل مصاب بالتوحد فيها، كما أن محافظات أربيل ودهوك والسليمانية تحتوي على مراكز حكومية مجهزة بوسائل حديثة للتعامل مع الأطفال المتوّحدين.
وتصف الباحثة الاجتماعية في مركز التوحد الحكومي في السليمانية سروا كاظم، المراكز الحكومية الخاصة بالتوحد في إقليم كردستان بـ “بارقة أمل” للعائلات التي فيها طفلٌ يعاني من التوحد.
لكن جمعية مرضى "التوحد" في إقليم كوردستان كشفت، وعبر رئيسها جمال الجباري في حديث ان "الرقم المعلن عن عدد الإصابات بالتوحد مؤشر خطير مقارنة مع تعداد السكان في كوردستان الذي يناهز 5 ملايين نسمة"، مبيناً أن "نصيب الأسد كان للعاصمة اربيل بـ1300 مصاب بمرض التوحد، تلتها دهوك بـ850 مريضا، ثم السليمانية وحلبجة بـ900 مريض، وفي إدارة منطقة كرميان المستقلة 315 مريضاً، وفي إدارة منطقة زاخو 300 مريض".